بعد
اضطراب الاحوال أبان خلو كرسي الجثلقة، وبعدما هدأت موجة
الخروج من النصرانية، تمكن السريان النساطرة أخيرا من انتخاب
جاثليق لهم واستصدار أذن السلطات بتوليته، وجرى ذلك في ظل
استمرار التدابير التمييزية خلال وزارة عميد الدولة أبي منصور
بن جهير الذي وزر للخليفة المقتدي بأمر الله منذ العام 1091.
كان أبو
الفرج سعيد بن ابراهيم الواسطي (أن أسمه يدل على ان اسرته
تتحدر من واسط، الا انها تنزل ببغداد في حي العتيقة)، القس
الراهب طبيب السلطان ألب أرسلان ملكشاه السلجوقي، قد حل محل
الكتاب من بني الموصلايا (الموصلي –
وكان الاولى ان يقال آثورايا، باعتبار أن آثور هوأسم الموصل
بالسريانية "الاشورية" استنادا الى معجم ابن بهلول ص322 وكذلك
نجد في كتاب الرؤساء لتوما المرجي، ترجمة
BUDGE
ج2 ص388 قوله "مدينة الآثورايي". على رأس أعيان المشارقة من
السريان (الاشوريين). فهو الذي ساند بقوة ترشيح مكّيخا مطران
الموصل وحزّة (من اعمال أربيل) لكرسي الجثلقة، يعضده في ذلك
رجل بعرف بأبي الفرج بن التلميذ، وهو الذي حصل على الشلموت
الحاوي أجماع الناخبين وخطوطهم، وربما أيضا على المنشور
الخليفي الذي أنشأه أبو نصر بن الموصلايا في صفر 485، أي بين
13 أذار و 10 نيسان 1092.
كان قد
بدأ صراع بين بين مكيخا وابن الواسطي بسبب خلاف على التدابير
الواجب ترتيبها لاصلاح القلّية، أذ لم يرد ابن الواسطي على
دعوة الجاثليق للتفاوض في تباين المواقف من هذا الشأن، ثم عقب
ذلك وحشة بين الرجلين ، لم يلتقيا من بعدها ابدا.
انتهى
النزاع (في العام 1097؟) بحرمان ابن الواسطي ثم بما أنزله
الجاثليق به من عقوبة العمى "بمعجزة" وهي عقوبة تعدّ طفيفة أذا
ما قيست بما اظهره مكّيخا، في أحوال أخرى، من مقدرة رهيبة على
تعجيل آجال أعدائه بالدعاء عليهم.
في الحالة
التي بين ايدينا أراد الجاثليق الابقاء على حياة الطبيب ويبدو
ان عماه كام مؤقتا. وقد حاول ذوو النفوذ من أصحابه التدخل
للدفاع عنه، ذلك لأنه كان آنئذ طبيب الخليفة المستظهر، وكان
عظيم المنزلة عنده. فمن ذلك أن الطبيب كما عجز عن الوفاء بدين
قدره ألف دينار أضطر الى رهن كتبه لقاء نصف المبلغ فدفع
الخليفة النصف الثاني.
في هذا
الوقت، أي بعد الحرمان في ما يبدو، تدخل قصر الخلافة لصالح
الطبيب، فأستٌدعي الجااثليق رسميا من دار الروم، ووضع تحت
الحراسة بدار في محلة باب العامة كانت لرجل يٌدعى بدران فهروز.
وقد مكث مكيخا هناك، يصحبه واحد من تلاميذه فحسب ينام على
الارض مفترشا شدّايته لا غير بانتظار المثول بين يدي الخليفة.
وعندما
استحضره عميد الدولة بطلب من مولاه المعظم، دار بين الرجلين
حوار التزم فيه الوزير العظيم النفوذ جانب الاعتدال الحصيف لما
كان يعرفه من منازلته خصما يستمد من المقدرة على صنع الكرامات
هيبة مرهوبة.
سواء
أكانت لهجة الوزير، لهجة تأنيب أو اقتراح ودّي أذ قال:"لا يجوز
أن تخالف أمير المؤمنين وتغضب طبيبه" يعني ابن الواسطي. فقد
جاء رد الجاثليق بلا مواربة ملتهبا:"لا يجوز أن يغضبني
ويخالفني في ما أفعل، وأنا أمري عليه". لم يكن عميد الدولة
معتادا على ان يخاطب بهذه اللهجة، لذلك حمي غضبه ونّمت عن
الوعيد أجابته أذ قال:"أن لم تقبل منه، ما لك شغل في بلدنا".
وكان ذلك يعني النفي الى بلاد الروم المعادية. ولكن الجاثليق
لم يَهَب التهديد بل أجاب:"أني ان مضيت من بلدكم فأمري ونهيي
وما أحل وأعقد، فهو على حاله ولا يحسب أن هذا العهد الذي كتبتم
لي أنا مولّى به وانّما هو سنّة وعهد وألاّ فأنا مولّى من
السماء، وأن كان أمركم ونهيكم مائتي فرسخ فأنا أمري من مشرق
الأرض ألى مغربها وأما هذا الطاغي يعني ابن الواسطي فلا يصحّ
له صلاة ألا بذكري". ولعل الوزير لم ينزعج من هذه الجملة
الاخيرة بل ربما وجد فيها مخرجا لائقا. على أية حال توقفت
المناظرة عند هذا الحد، ثم رفع الوزير تقريرا خطيا الى الخليفة
"وما أخلّ بحرف واحد" ولما كان من غد ذلك اليوم ومثل ابن
الواسطي بين يدي مولاه أحبّ الخليفة أن يستثبت منه صحّة زعم
الجاثليق فسأله:" أنت أذا ما صلّيت تذكر في صلاتك الجاثليق
فقال نعم. وقال له: ما يصحّ أن تخلّ بها؟ فقال ما يجوز . . ."
فلما سمع الخليفة أقرار المذنب، أحس بأنه قد حشر نفسه في قفير
النحل، فصرف الطبيب قائلا:"فأذا كان لا يجوز ألا أن تذكر اسمه
في صلاتك فأيش يدخلنا نحن بينكم، ولا يجوز أن تخالفه؟" ثم وجّه
في الحال ورفع الحراسة عن الجاثليق، فأطلق سراحه فعاد ألى دار
الروم "وطاب قلبه".
كان ابن
الواسطي حتى ذلك التاريخ قد انزوى في كنيسته الاصليه بمحلة
العتيقة، حيث استمر في أقامة الصلوات وتزيع القربان على جماعة
من أصحابه مستهترا بأمر الحرمان.
وقد توسّط
الوزير في مصالحة الرجلين، فاستدعاهما الى داره، وأمر ابن
الواسطي بأن يقبّل يد الجاثليق، فاكتفى الجاثليق بهذا القدر،
ولم يطلب من أكثر ليرفع الحرمان.
ولم يطل
الوقت حتى حلّ عيد كنيسة العتيقة "وفي منتصف الصوم الماراني"،
فترأس الجاثليق الاحتفال واحتجب عنه ابن الواسطي. ألا أن القس
الطبيب حضر يوما مراسم دفن بعض أعيان النصارى حيث واجه
الجاثليق فقبّل يده حسب العادة، ولكنه لم يلبث أن غادر المكان.
بعد ذلك نجده في كنيسة رعيته بسوق الثلاثاء.
مات مكيخا من بعدما عاد الى دار الروم يوم الاربعاء 12 شعبان
502 \ 17 آذار 1109. وبعد وفاة مكيخا شغر كرسي الجثلقة مدة
سنتين.
|