كان
انتخاب عبد ايشوع من اكثر الانتخابات تعقيدا (وقد رأينا شيئا
من غرائب ذلك) في سلسلة خلفاء مار ماري على كرسي المدائن. كان
عبد ايشوع ابن بعض اللاجئين من كرخ جدان بالموصل، وقد تعلم
المنطق على ابن نصيحة الذي أخذ عن موسى بن كيفا. كان عبد ايشوع
أسقفا على معلثا وبانوهدرا الى الشمال من الموصل لما اتفق
"الاباء والمؤمنون" على اسمه. كان أهل بغداد قد بدأوا باستئجار
المراكب لينحدروا بها الى المدائن ويحضروا رسامة الجاثليق
بكنيسة كوخي، وكان هارون بن حنون كاتب سبكتكين الحاجب قد اشترى
كل ما يلزم للرسامة وأذا بالجميع يصدمون باعتراض المطيع من قبل
معزّ الدولة. ذلك لأن طبيبا قسا من دار الروم، اسمه فثيون، كان
قد اشترى المنصب في تلك الاثناء. فقد دفع هذا القس "الذي كان
حسن الحال" مبلغ 300,000
درهم
ليكسب الاصدقاء، ومنهم اسكورج الديلمي.
حاول
"المرشح" أن يضع يده على الكنائس ألا أن الاساقفة تهاربوا منه:
عاد مطران الموصل الى بلده مع "العرب" (الحمدانيين) واختبأ
الاخرون. وسارع الوزير المهلبي الى وضع القلّية تحت الحراسة.
بعد بضع
محاولات لحل الازمة دعا الوزير بأعيان النصارى وقال لهم بلا
مواربة: أذا اردتم غير فثيون فاعطوني عوض ما بذله فثيون، وبعث
الامير معز الدولة ابا مخلد عبدالله بن يحيى، نائب ركن الدولة،
الى القلّية ليفتشها . كان أبو مخلد هذا نصرانيا من قبل وكان
يترفق في معاملة أبناء ملته الاولى. فاتفق معهم على ان "يضبط"
هناك مبلغا زهيدا (12000 درهم) ويوقف التفتيش. ولما قدم المبلغ
الى معز الدولة تلطف في اظهاره وكأنه "من صدقات النصارى على
الضعفاء والايتام". فتحرج الامير من قبض المال وأمر برفع
الحراسة عن مقر الجثلقة، ومنعهم من التعرض لرجال الكنيسة بها.
كانت تسعة
عشر شهرا قد انقضت في تدبر القضية لما دعا الوزير بالاعيان
مجددا من اجل مصالحة تتيح الانتخاب. عندها وقعت مشادة بين
المهلبي وابن سنجلا، حامية الى حد ان قلب الكاتب العجوز لم
يحتملها، فمات، وكان ذلك سنة 963.
أخيرا
توصل الى حل وسط: يدفع النصارى مئة الف درهم، وثلاثين ألفا
للوزير. ومن أجل جمع المبلغ، بيعت الاواني النفيسة التي
بالكنائس، وأكمل المبلغ من تركة عمانوئيل، وبذلك جاءت أموال
العجوز البخيل في محلها.
أعيدت
عندئذ الانتخابات. نلاحظ عابرين اعتراض بعضهم على احد
المرشحين: لان اخاه كان قد أسلم. أخذ بالاعتراض وسحب اسم
المرشح. وذكر المعجمي المعروف أبو الحسن بن البهلول اسم اسقف
معلثا الذي نسيه القوم. فخرج هذا الاسم بالذات ثلاث مرات عندما
ألقيت القرعة على الاسماء.
وكما جرى
مع عمانوئيل اضطر الاباء الى مطاردة الجاثليق المنتخب الذي لم
يكن حاضرا. ولما كانت ابرشيته تلحق بالموصل كتب معز الدولة
الى ناصر الدولة الحمداني، وكتب المهلبي الى دنحا الوزير
النصراني عند الحمداني، وكتب رؤساء النصارى الى مطران الموصل
بارسال المنتخب في أقرب وقت. وطلب الكاتب النصراني ابو العلاء
صاعدا الى ابن بهلول أن ينشئ الرسائل.
سار
البريد وأسرع، وقطع ما يقارب 400 كلم في أربعة أيام. وكان لا
بد من اكراه عبد ايشوع على الركوب الى بغداد، لأنه كان قد
استقال لتوه، حتى من اعماله الاسقفية. ولما حصل ببغداد نزل هو
وصحبه الموصليون في ضيافة أعيان البلد. ومن هؤلاء الاعيان يذكر
ابن زهمان، الذي كانت داره بحي العتيقة بضاحية بغداد الغربية.
ثم انتقل الجاثليق المنتخب الى منزل طازاد بالجانب الشرقي من
بغداد، ومنه الى منزل ابي العلاء صاعد. ومن هناك هرب الجاثليق
المرغم فأدركوه، وكانت رسامته في 24 ربيع الاول سنة 352 \ 22
نيسان 963.
كان سئ
التدبير الى الغاية، فترك أموال الكنيسة نهبا لتلاميذه وصحبه
حتى ثارت عليه رعيته. فهرب عندئذ من دار الروم الى دير مار
فثيون بالجانب الآخر من دجلة، فلما لحق به المتمردون اعتذروا
منه وغفروا له ما فعل من أجل تقواه.
|